مرت ثلاث سنوات منذ وقوع انفجار 15 آب في التليل-عكار، وخلال هذه الفترة، لم تتلاشَ المعاناة النفسية والجسدية للضحايا وذويهم، خاصة في ظل تأخر المحاكمات وإفلات الجناة من العقاب. في هذه الذكرى، نعيد نشر مقال سبق أن كتبناه في الأول من يناير 2022، يوثق التأثير النفسي الذي مر به ولا يزال يمر به الضحايا.
حتى الآن لا يمكنني النظر إلى النار أو الشعور بها” بهذه الكلمات يصف عبد الله محمد عوض أحد الناجين من انفجار التليل حالته النفسية. يترك هذا الانفجار اثارا نفسية مرعبة على ضحاياه حتى يومنا هذا. 4 شهور ولم تزل ندبة هذا الانفجار على عوض الاب لسبعة أبناء والعامل البسيط في مجال البناء.
يتذكر عوض لحظات الانفجار كأنها حدثت اليوم، بالرغم من مرور أكثر من 4 أشهر على الحادث. يقول بعد ثوان من الانفجار وجد نفسه مغطى بالحروق غير قادر على المشي في مشهد “كأني كنت في جهنم” التفت يمينا ويسارا للبحث عن ابنه الصغير ذو 12 عامًا وزوج أخته وقد كانا قد سبقاه ولكن تأثرا بحروق طفيفة.
تأثيرات نفسية صادمة
تعالج عوض في إحدى مستشفيات المنطقة لثلاثة أيام قبل أن يعود إلى منزله، الذي لا يسمح بإشعال النار فيه حتى لأغراض الطبخ. وعندما يرى نارًا عند أحد جيرانه أو دخان يشعر بالانزعاج والضيق. صوت الإسعاف أصبح يخيفه. والمرور من جانب مكان الانفجار يشعره بالضغط الذي شعر به وقت الانفجار.
يصف عوض نفسه كشخص اجتماعي قبل الانفجار بحكم عمله مع فريق بناء وكان محبًا للجلسات العائلية والتواصل مع الاصدقاء. أما الآن فهو يفضّل العزلة ولا يشعر بارتياح خلال التجمعات، التي تّذكره بالتجمع حول الصهريج. أضاف أنه لا يمكنه تحمل الأشخاص أكثر من ربع ساعة حتى أولاده وعائلته أصبح يشعر بالابتعاد عنهم. ويقول “أنا الآن أشعر بالضعف لا أستطيع تقبّل نظرات التعاطف لأنها تشعرني بعجزي”.
ما خلفه الانفجار على ضحايا التليل لا زالت محفورة في وجدان الضحايا وانعكاساته مستمرة. تشير الاختصاصية النفسية والاجتماعية مريم السحمراني في حديث لمنصة الحداثة الى ان المشاكل النفسية التي سببها لها أكثر نفسي كبير، ليس فقط على الضحايا أو المصابين بل وحتى على ذويهم والمجتمع المحيط؛ وكل من شهد الحادثة أو تأثّر بها. وأقرب مثال على ذلك انفجار مرفأ بيروت، الذي لا تزال الجراح النفسية التي خلفها عالقة في قلوب ملايين الأشخاص من سكان العاصمة ومن حولها.
ليس عوض سوى مثال واحد عن عشرات الأشخاص الذين يعانون مثله أو أكثر ولم يحصلوا على الدعم الصحي والنفسي الكافي، لكي يكملوا حياتهم بعد هذه الصدمة التي عاشوها. إن هذه الصدمات قد تخرج مباشرة على شكل اضطراب ما بعد الصدمة PTSD)).
تشرح السحمراني هذه المعاناة بشكل تفصلي كيفية التعامل مع هذه الاضطرابات. وتوضح ان اضطراب الإجهاد أو الكرب ما بعد الصدمة يتميّز بأنه حدث يفوق قدرة الشخص على التعامل معه أو تقبله يكون سببه تعرض الشخص لحادث كارثي يُسبب صدمة نفسية للشخص مثل أحداث الحرب، انفجارات، حوادث السير، كوارث بيئية، زلزال براكين، ضحايا العنف، والتحرش الجنسي.
وتلفت السحمراني الى ان الناجين من انفجار منطقة تليل لا بد لهم من اخذ الاحتياطات حول سلامتهم النفسية والعقلية قبل أي أمر آخر! فالكثير منهم عبّروا وقد لوحظ عليهم عوارض اضطراب ما بعد الصدمة ومرورهم بمراحل الحزن الخمسة: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، والتقبل. ومن أكثر العوارض الملاحظة على الأشخاص، هي كالتالي:
– اعراض اقتحامية flashback تكرار مشاهد الانفجار واعادة الذكريات لمشاهد الجثث، وروائحهم بطريقه متكررة.
– اعراض تجنب الأشخاص للأشياء، الأماكن، الروائح، وكل الامور التي تذكرهم بالحدث الصادم.
– تغيّرات اليقظة وردود الفعل، حيث يجد بعض الضحايا صعوبة في النوم، أو مثلا تأثيرات سلبية على التفكير والمزاج، قلق عالي، والشعور بالذنب المستمر.
– الكوابيس حول الحدث شائعة وتسمى بـ “استعادة الخبرة”.
– اضطراب الاكتئاب.
– قدرة أقل على السيطرة على ردود الأفعال، مما يؤدي الى سلوك متهور أو نوبات من الغضب الشديد، وقد يغيب الشعور بالرضا أو السعادة، والحب.
حلول مهمة
وهنا لا بد من تشجيع الأشخاص على تلقي الدعم النفس الاجتماعي او المعالجة النفسية العيادية بحسب السحمراني، التي يمكن أن تكون جماعية او فردية. مثلا مجموعات الدعم العاطفي تتكون من ٨ الى ١٠ أشخاص تعرضوا لنفس الحادث الصادم، فقد تفيدهم هذه المجموعة بالتعبير عن مشاعرهم ومواجهة الحدث وتقبله سويةً بدعم بعضهم البعض عبر جلسات منظمة أسبوعياً. أو العلاج النفسي الفردي، حيث يتم متابعة الفرد من أخصائي عيادي او طبيب نفسي حيث يساعد بفهم وتغيير الأفكار السلبية والمشوهة لديه.
كما أن بعض الحالات لا تخلو من حاجتها للعلاج الدوائي اي اخذ العقاقير اللازمة للتخفيف من حدة الاضطراب وعوارضه السامة، مثل: الكوابيس، وعدم النوم، وهنا يمكن للطبيب النفسي وصف الدواء الانسب حسب الوضع والعارض.
ويجب تسليط الضوء على أهمية الوضع وخطورته على المدى البعيد فالكثير من الأشخاص يظنون ان الحدث قد مضى عليه وقت!! ومن غير المجدي التكلم أو الإبلاغ عن المشاعر والعوارض التي يشعر بها الشخص وخاصة ان اضطراب ما بعد الصدمة يمكن ان تبدأ عوارضه بغضون ٣ الى ٦ أشهر من الحادث.
وعند رفض الضحية تصديق ما يشعر به، ورفضه للحصول على دعم النفسي، يمكن ان تظهر اضطرابات أخرى، أو أمراض عضوية خطيرة سببها عدم الاعتراف بالألم النفسي.
والأشخاص الذين لم يستطيعوا تجاوز هذا الاضطراب قد يتحول لديهم الأمر لأمراض نفسية أخرى كالقلق والاكتئاب. وتحتاج مثل هذه الأحداث إلى تقديم علاج سريع ومبكر للضحايا حتى لا تخلف هذه الأحداث ندوبًا تستمر وتعيق حياتهم. فمن لم يمت من الانفجار قد يموت من ذكراه.
غياب رعاية الدولة
لم يأتِ عوض على ذكر أي مساعدة تلقاها من مراكز الشؤون الاجتماعية أو مراكز وزارة الصحة في عكار. تواصلت منصة الحداثة مع مركزين للشؤون الاجتماعية في عكار، وهما مركز ببنين ومركز البيرة، وأكد الموظفون أن مراكزهم لم يكن لها دور في المساعدة، أولا: لأنها غير مجهزة لحالات الكوارث. ثانيا، لأن المراكز تفتقر لجهاز دعم نفسي فعال. وتنحصر مهمة هذه المراكز في تنفيذ المشاريع التي تقرها الدولة كمشروع دعم الأسر الأكثر فقرا.
حصل عوض على عدة جلسات دعم نفسي خلال وجوده في المستشفى وفي بيته من خلال احدى الجمعيات الاهلية، وتم اعطاءه بعض الأدوية لمساعدته على النوم والاسترخاء. ما تعرض له ضحايا التليل تشي بغياب واضح للسلطات اللبنانية على جميع مستوياتها في التعامل مع مثل هذه الكوارث، كما تظهر ان التقصير يستمر مع الضحايا الذين باتوا بحاجة الى عناية نفسية على قدم المساواة مع العناية الطبية.
كتابة: عمر خالد
بحث ميداني: بشير الرفاعي