محافظة عكار، التي تُعَدّ من أكثر المناطق اللبنانية حرمانًا، تظهر ظاهرة التسوّل كجرح مفتوح يعكس الأوضاع المعيشية الصعبة لسكان المنطقة والنازحين الذين يشاركونهم المكان والمأساة. ظاهرة التسوّل لم تعد مقتصرة على الفقر فقط، بل باتت أشبه بشبكة مُنظمة تشكّل تحديًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياحيًا في آنٍ واحد.
لا يمكنك زيارة منطقة سياحية عامة في عكار دون أن يُحيط بك المتسوّلون من كل الأعمار والجنسيات، في مشهد يثير التساؤلات والقلق. في منطقة “الكواشرة”، المعروفة بجمال بحيرتها الاصطناعية التي تُعد متنفسًا لأبناء المنطقة والنازحين على حدٍّ سواء، تتفاقم هذه الظاهرة بشكل لافت. عند ركن سيارتك، قد يستقبلك ما يزيد على عشرة متسوّلين خلال دقائق معدودة. من نساء حوامل وأطفال ذوي احتياجات خاصة إلى رجال يعانون تأخرًا ذهنيًا، يتكرر هذا المشهد الذي لا يخلو من تدخل “مشغّلين” يديرون هذه الشبكات ويستغلون ظروف هؤلاء الأفراد.
تُشير التقارير إلى أن نسبة الحرمان في عكار تصل إلى 63.3%، ما يجعلها من أكثر المناطق اللبنانية فقرًا. أضف إلى ذلك النزوح السوري الكبير الذي يقدّر بـ300 ألف نازح، أي حوالي 70% من سكان المنطقة. هذه الأرقام تؤكد أن الضغط الكبير على الموارد المحلية ساهم في تفاقم الفقر، ومن ثمّ دفع البعض إلى اتخاذ التسوّل كوسيلة للبقاء.
تحقيق استقصائي نشره فريق “نقد” تحت عنوان “أبناء الرصيف”، كشف خفايا شبكات التسوّل التي يديرها أفراد يستغلون الفئات الضعيفة لتحقيق مكاسب شخصية. المفارقة أن أحد أبرز مديري هذه الشبكات، وفق التقرير، هو لبناني من بلدة “الكواشرة” نفسها، مما يزيد من تعقيد القضية ويؤكد أن الظاهرة لم تعد عشوائية.
انتشار المتسوّلين في المناطق السياحية مثل الكواشرة، وباقي مناطق عكار، لا يقتصر تأثيره على المظهر العام، بل يتسبب أيضًا في إزعاج الزوار وتقليل جاذبية المنطقة كوجهة سياحية. إلى جانب ذلك، يرتبط التسوّل بزيادة معدلات الجريمة والنشاطات غير القانونية، مما يشكل تهديدًا للأمن العام واستقرار المنطقة. هذا الانفلات الاجتماعي يترك أثرًا نفسيًا سلبيًا على السكان والزوار على حد سواء، حيث يصبح التسوّل جزءًا من المشهد اليومي، مما يساهم في تطبيع الظاهرة بدلاً من مكافحتها. علاوة على ذلك، تُظهر الدراسات أن الأطفال المتسوّلين يواجهون خطر الانزلاق إلى عوالم الإدمان والجريمة، مما يخلق جيلًا جديدًا يعاني من التهميش وانعدام الفرص.
في مواجهة هذه الظاهرة، تبدو الجهود الرسمية خجولة وغير كافية. على الرغم من محاولات بعض الجهات المحلية تنظيم حملات للحد من التسوّل، إلا أن غياب استراتيجية شاملة وموارد كافية يعرقل تحقيق نتائج ملموسة. كما أن التعاون بين السلطات والمجتمع المدني لا يزال محدودًا، ما يؤدي إلى تكرار الحلول المؤقتة دون معالجة جذور المشكلة.
من جهة أخرى، تقوم بعض الجمعيات المحلية والدولية بجهود لمحاربة الظاهرة من خلال تقديم المساعدات المادية والتعليمية لبعض الفئات المهمشة، لكن هذه المبادرات تبقى غير كافية في ظل الأعداد الكبيرة والمتزايدة من المحتاجين. وهنا يأتي السؤال عن دور الدولة المركزية التي تغيب بشكل شبه كامل عن دعم منطقة عكار، مما يترك سكانها عرضة للفقر والاستغلال.
ظاهرة التسوّل في عكار ليست مجرد مشكلة اجتماعية عابرة، بل هي انعكاس لتدهور البنية الاجتماعية والاقتصادية في واحدة من أفقر المناطق اللبنانية. تحتاج هذه الأزمة إلى تضافر جهود الدولة والمجتمع المدني، وإلى استراتيجيات طويلة المدى تركز على معالجة الأسباب الجذرية للظاهرة بدلاً من الاكتفاء بحلول سطحية ومؤقتة. فالتسوّل ليس قدرًا، بل نتيجة لسياسات وإهمال يمكن تغييره إذا ما توافرت الإرادة الحقيقية للتغيير.