حقبة من الظلم: وصاية النظام السوري على عكار
لا تزال مشاهد الظلم والقهر التي تركها النظام السوري قبل انسحابه من لبنان عام 2005 محفورة في ذاكرة العكاريين. تسعٌ وعشرون عامًا من الوصاية السورية، حملت معها سجلًا حافلًا بالاعتقالات والخطف والتعذيب والسرقة عند الحواجز، لتُشكّل في وجدان اللبنانيين نموذجًا مريرًا للإجرام والاضطهاد
ذكريات الاعتقال: شهادة السيد محمد الكسار
يروي السيد محمد الكسار لـ”سبوتكاست” تفاصيل اختطافه على يد المخابرات السورية عام 1994 من أمام سرايا حلبا.
يقول: “تم نقلي من مكان اختطافي إلى عنجر، ومنها بسيارة عسكرية مغلقة. كنا جميعًا – أنا والأسرى الآخرين – معصوبي الأعين ومكبلي الأيدي. أُجبرنا على طي ظهورنا على أقدامنا طوال الطريق، وكل من حاول رفع رأسه كان يُضرب ويُشتم بوحشية. استمرت هذه الحال حتى وصلنا إلى دمشق، تحديدًا إلى فرع فلسطين”.
أساليب التعذيب الوحشية في فرع فلسطين
ويضيف: “في ذلك الوقت، لم يكن أحد يجرؤ على الاعتراض علنًا على الوجود السوري في لبنان. خلال التحقيق، سُئلت عن منشور لي اعترضت فيه على الظلم في منطقة التبانة، وإن كنت أقوم بطباعته وتوزيعه. لم يكن التحقيق عاديًا؛ كنت معصوب العينين ومكبل اليدين، ومنزوع الملابس. تولّى التحقيق أكثر من محقق، كل منهم يحمل أداة تعذيب مختلفة: الصعق بالكهرباء، الدواليب، الكرابيج – وهي أدوات بلاستيكية محشوة بقطع حديدية – إضافة إلى الشبح على الحائط”.
الحياة في المعتقل: ظروف قاسية تحت الأرض
أما عن ظروف الاعتقال، فيقول: “كنا تحت الأرض جميعًا، يُحشر حوالي خمسين سجينًا في غرفة واحدة، يتناوبون على الأسرّة المتوفرة. لم نكن نعرف الوقت إلا من خلال مواعيد الطعام، التي لم تكن تكفي الجميع، وغالبًا ما كانت غير قابلة للأكل. التهوية تعتمد على شفاطات كهربائية، وعندما تنقطع الكهرباء كنا نختنق، مما يضطر السجان لفتح الأبواب مؤقتًا، خاصة في حرارة الصيف”.
كثيرون من أبناء قرية ببنين العكارية ذاقوا مرارة المعتقل، منهم من قضى سنوات، ومنهم من خرج وهو يعاني من شلل نصفي أو أمراض في القلب أو تفسخ في الجلد بسبب “السلخ بالكرباج”، أو تكلس في الأكتاف.
الحواجز الأمنية: مصدر قهر يومي للعكاريين
في تلك الحقبة، كان أبناء عكار يعانون ضغطًا استثنائيًا بسبب حواجز المرور المنتشرة في المنطقة. من أبرز الحواجز الثابتة: حاجز العبدة عند مدخل عكار ومخيم نهر البارد، وحاجز دوار حمص على الساحل المؤدي إلى معبر العريضة. كما كانت هناك حواجز للجيش السوري مؤقتة تقام حسب الظروف والتقارير الصادرة عن مخبري حزب البعث، مثل حاجز برج العرب المؤدي إلى بلدة برقايل. بالإضافة إلى حواجز ثابتة أخرى في بلدات كالقبيات، ووادي خالد، وجبل أكروم.
أثر المعاناة في الذاكرة الجماعية لأبناء عكار
غياب القوى الأمنية اللبنانية خلال تلك الفترة جعل المرور مشروطًا بدفع المال أو التنازل عن جزء من البضائع. هذا إلى جانب الخطف، والقتل، والاعتقال. وكان المعتقلون يُنقلون لدى جيش النظام إلى نقطة المخابرات الرئيسية في حلبا، حيث يُزجون في معتقل مؤقت تحت الأرض، إما بانتظار الإفراج عنهم أو ترحيلهم إلى عنجر أو دمشق.
حقبة سوداء أضيفت إلى سجل النظام السوري المخلوع، لتبقى شاهدًا على معاناة أهالي عكار والشمال. وبعد سنوات طويلة، تحققت العدالة الإلهية أخيرًا.